الهاتف المفاجئ هذا المساء قضّ مضجعي وحوّل هدأتي إلى زوبعة من الأفكار، كنت أحسب أن خلافاتنا سترمم خلال بعدنا عن بعض، فتركته لأيام لعلّ الحنين يعيده إليّ ثانية مجتنباً كل ضروب الملامة والتجريح. - شئت أن أتعرف عليكِ. نفضت النعاس عن عيني: - عفواً من أنتِِ؟ - عبير قاسم خطبية عز. شهقت حتى اختفى صوتي: - عـز؟! ربما سكرة النوم شوشت منافذ سمعي. - ما بكِ صامتة؟! تنهدت لألفظ الغصة. - من تقصدين؟ - عز الدين راتب؟ هبط قلبي في قاع لا قرار له. - وماذا تريدين بالضبط؟ - عرفت أنه كان على علاقة بكِ، و.... اعترضتها: - ومن أين عرفتِ؟ - حينما بحثت في سيرته علمت أنكما انفصلتما قبل إتمام مشروع الزواج. اغتظت منها لكني استمرأت قلقها. - نعم كنا نحب بعضنا وقد تركته بمحض إرادتي. شاب نبرتها نوع من اللين: - أرجوكِ ساعديني لأتعرف عليه... ممكن؟! أخذني الفضول. لِمَا أنتِ مترددة؟ - لا أستطيع أن أخوض بالتفاصيل عبر الهاتف فهل يمكنني دعوتك على فنجان قهوة في مقهى المارينا؟ - دعيني أفكر في الأمر بعض الوقت. أحسست بصوتها المتوتر وقد غلفته بهدوء متصنع فأي فخٍ سقطت فيه تلك الحمقاء ومن قبلها النسوة المنبوذات على رصيف نزواته، هكذا يترك عز ضحياته مولعات، مفتونات ثم يختفي، التذبذب المحيّر لقلب المرأة المتعطشة إلى وطن تسكن فيه، فحينما يبذر بذاره ويهيم في كل واد وتعلل المخدوعة نفسها بحلم العودة وهي في ذروة النشوة متفيأة ظله، متمنية الموت بين ذراعيه حتى تهوى عليها المطرقة فوق رأسها فتفتح عينيها الغافيتين على حب سراب ورجل وهم ولكن بعد أن تغلغل الحب فيها وتمكن، تطحنها الحقيقة المرة فتتلفت مستدركة،إن كان حلماً أم حقيقة؟! لم يحالفني الحظ لأغوص في ماضيه البعيد وأبحث في دفائن أسراره، لكني حينما استدرجته استطعت أن أفهم شخصيته النزوية، بالرغم من تأكيداته المشكوك بصحتها أنني المرأة المستثناة عن كل النساء اللاتي صادفهن في محطات حياته، غمرني نوع من الزهو إلا أنني في أوقات كثيرة أخمن أن هناك امرأة قبلي تلقت ذات التصريح، توجها ملكة ثم نفاها من حياته حثالة فألبس ورثيتها تاج الملكة، لكني أوهم نفسي أن هذه وساوس ينبغي تكذيبها كي لا تنخر في محبتنا الصامدة خمس سنوات. أتذكر.. عهدنا الأول، والنفخة السحرية في جسدينا المحنطين حينما اشتعلت جذوة الحب وتوقدت أوصالنا حرارة الشوق، أوقات الانتظار والترقب لاستكشاف مكنونات الآخر والدهشة حينما تخطفنا خيالاتنا إلى ما وراء الخفقة. أحسسته بطلاً قفز من صفحة الماضي المهمل يمتطي خيلاً خرافياً ورمحه الفولاذي يلمع في ليل حياتي، بهرني فتمنيته، فأنا أرملة ذقت مرارة العطش والحرمان، فقد اقترنت برجل ممراض لازمته سنوات صابرة، فخبا نشاطي وانطفأ بريقي، لم أرزق منه بطفل لأن مرضه أضعف قدرته على الإنجاب، لكني عاشرته بالمعروف وداريته بعطف رغم تحريض الناس على هجره، استقبحت الأمر الذي لا يبدر إلا من نفس خسيسة ودنيئة، فقد حرصت على مباشرته حامدة الله شاكرة حتى لفظ الروح وهو يودعني راضياً، وبعد شهور طويلة من حدادي استأنفت الحرب الدائرة مع أهل زوجي المرحوم بشأن العمارة التي ورثتها عنه فذهبت إلى أشهر محامي لأرفع قضية وصادفت (عز) صوته المستأسد وهو يرحب بي ملأني قوة وغلبة، حدثني فأوقد في شراييني شعور خارق شملني براحة لا يمكنني أن أعثر لها عن سبب، ذبذبات كهربائية مست قلبي فأضاءت كياني كله فإذا بالإشراقة تلمع في عيني المنطفئتين، استحوذني كقضية مصير فكنت أتردد على المكتب بدافع من إعجاب وعاطفة وتمنيت لو أن مرافعات المحامي تمتد وتطول حتى يأخذ حديثنا خصوصية الاقتراب، عرفت فيما بعد أن الشرارة المندلعة من جوفي مست شغافه فاستجاب لهتاف قلبي لكنه اتخذ الحيطة والحذر خشية أن تطالني ألسنة الناس، ويتأجج سعار اللوعة داخلي بتواطء من حرماني المزمن سنين طويلة. عرفت أنه متزوج رغم أنه ماطل كثيراً حتى صارحني في النهاية وألفيته يتكتم خصوصياته قاصداً بينما يستفز كل دهائه القانوني ليرصد تاريخي ويستنطق السنين الصماء التي حفرت في أعماقي متراساً من الخوف. شعرت بالأمان معه وآليت على نفسي على أن لا أبدد هذا الإحساس الجميل بنزوة جسد عابرة تلوثني فإن أقصى طموحي أن أبقى محمية من رجل قوي، تسلقنا مع مرور الوقت جبال الشوق الشاهقة فاختنقنا بحبنا المكتوم ولوعتنا المتدثرة بلحاف الحرام، فكان العرض الخجول (زواج عرفي) حاصرني وأنا أغرغر بالشوق المتطرف ولا أجد لهذا القرار رجعة عقل، برر أنه متزوج من ابنة عمه المتسلطة وهي ستحاربه بجيش جرار من إخوتها وأخواتها فتحطم قلعة حبنا حتى نستسلم، استصغرت شأني (أنتِ أرملة جفت أرضها ونضب ماءها فلا أمل لها في زواج أو طفل يعربد في أحشائها الجافة). قبلت مستسلمة لقدري واستأجرنا لحبنا الوليد شقة صغيرة لينمو ويترعرع في الحلال، البدايات كان لها طعم الشهد ونكهة الورد الطافح بالندى، اللقاءات المخطوفة، والخفقات المسروقة في الصباحات الضاجة حينما ينشغل الناس عن مراقبتنا، نسيت كل شيء وكدت أن أفقد ذاتي بذاته، فهو محب وقاسِ عاشق وظالم، وحينما أبكي من جوره أحياناً يطيب جرحي بمثياق حبه، (أنا سندك، أنا رجلك!) اختبئت فيه عن العالم واحتميت بجدران قلبه خشية أن تمتد مخالب الزمن فتنهشني، غيرته المتأججة تطمئنني أني جوهرة ثمينة وحري أن يصونني بكل ما أوتي من قيد. الحنان الذي أفاضه عليّ أوقد في أنوثتي ناراً فتجددت كي أستعد لمواسم مزاجه المتبدل، فله قدرة هائلة على التلون والتقمص ما يوقعني في حيرة وذعر وكأنما ينفصم إلى حالات عدة أو لأكثر من شخصية لها متطلبات خاصة وذائقة تناقض الشخصية قبلها، أشعر في كثير من الأحيان بالتعب والإرهاق لفرط إيقاعه السريع والقفز المفاجئ فوق أسوار علاقتنا، فمحاولاتي في التناغم معه واجتهادي لأستوعب عواصفه يُفهم خطأ فيفجر هذا اللغم المعبأ بالأسرار فيضطهدني بأقسى فنون الإهمال والتجاهل ويسوطني لسانة الغليظ بسادية ووحشية فيلفظ كبته علناً (كلكن ذات الشاكلة!)، تستوقفني هذه المحطة بشيء من القلق فأسأله ليس في حياتك سواي وزوجتك، فمن غيرنا تخبتئ في تاريخك وتطل عليك كلما تفتق جرحك؟ كثيرات، لازلن رغم غروبهن منغرسات فيه كالقدر، تعكرت مشاعري بعد اعترافه بهذه الحقيقة فبدأ الشك يدفعني إلى مراقبته لظني أن هناك من تهوى المغامرة مع هذا الرجل المتعدد الوجوه. مرت على حياتنا أيام صعبة فقد نازعته زوجه حق النفقة وحضانة الأولاد ودخل معها حرباً شرسة حتى طلقها في النهاية وعاش في بيته وحيداً فانتهزت الفرصة لأفاتحه بإعلان زواجنا السري، لكن مشاعره شابها نوع من الفتور فبررت أنه رد فعل طلاقه وحرمانه من طفليه لكن رغبته في لقائي انطفأت فصرت أشحت منه تلك الساعات النادرة، كان عذره أنه مكتئب أو أن المكتب مزدحم بالقضايا المؤجلة، نسي مع مرور الوقت يوم ميلادي والمحطات السعيدة التي كنا نحتفل بها وباقات الزهور التي يبثعها لي تحت عنوان اعتذار أو شكر في أحيان كثيرة، شحت يديه زاعماً أن طليقته استنزفت جيبه فما عاد يملك ديناراًَ واحداً!، اعتذر عن عجزه في دفع إيجار شقتنا ففعلت ذلك بدلاً منه، المخاوف الكثيرة أكلت حبي ونهشت أعصابي ففرضت عليه لقاءاً يومياً كحق من حقوقي رضخ مرغماً لكن لقاءنا كان يتحول إلى شجار يشرخ قلبينا ويقطع أواصرنا نبتعد لفترة طويلة ثم نحن لبعضنا فنلتقي ثانية وهكذا عشت السنتين الأخيرتين في مد وجزر حتى غرقت، وهذا القلب الذي ضمني واحتواني زمناً لفظني في صحراء قاحلة، وحيدة دون سند، هرب بمبررات واهية، وفي الحقيقة ما عاد رحيقي الذي زهده يخلق فيه حالة اندهاش وإثارة وتوقعت أن ثمة امرأة شغلت تفكيره، أحرجته كي يعلن زواجنا ادعى أن زوجه سترجع البيت فهناك محاولات صلح يتصدى لها كبار العائلة. حف بي الشقاء وغب النعيم وترهل رباطنا الوثيق فما عدنا نلتقي إلا وأعماقنا تمور بالنفور والضغينة، اختبرته لأفضح طويته، (فلنغلق الشقة)، كان رده طعنة في صميم فؤادي، تناصفنا قطع الأثاث التي اشتريناها معاً وبعض مستلزمات المعيشة وسلمنا المفتاح لصاحب العمارة وعدت إلى جحري منكسرة ذليلة، مضى شهر، شهران، وأمل العودة يعتمل داخلي كأمنية ربما يحن إلى صوتي حينما يغص في حبه، واحترت في أمر المرأة التي اتصلت تطلب مقابلتي هل أصارحها بالقصة فيتحرى (عز) بطرقه الخاصة عن المصدر فيعرفني، لكن فضولي دفعني لأتعرف عليها من استحمقها بأكاذيبه. استجبت لإرادة عبير فاتفقنا على اللقاء صباحاً. ذهبت في الموعد وأنا ضطرب، يتناهبني الخوف والغيرة في وقت واحد وحينما اقتربت من الطاولة رقم (9) أخذتني الدهشة: (أهذه خطيبته؟)، الوجه مألوفاً لي، وقد شاهدته لأكثر من مرة، تذكرت، على الأرجح في المكتب، شكوكي كانت تلهمني أن ثمة دخيلة في علاقتنا صادفتها معه وحينما استعلمت قال (إنها إحدى الموكلات اللاتي يترافع عنهن نيابة عن أستاذه!). ألقيت التحية ثم جلست وعيناي يتقادح منهما الشرر. وبدون مقدمات سألتها: - اسألي وسأكون في خدمتك: - فلنطلب القهوة أولاً. أجبت متذمرة: - لا داعِ الآن. ارتبكت ولا تعرف كيل تلملم أطراف الحديث بيد أن نظرتي شحذت همتها: - لقد سبق لي تجربة زواج فاشلة، ولهذا أحذر الارتباط الآن دون دراسة الطرف الآخر، فعز كان المحامي الذي باشر قضيتي حتى انفصلت عن زوجي السابق، أحببنا بعضنا وانتهينا إلى قرار الزواج. كان الشر يغلي داخلي فسألتها: - وما المطلوب مني بالضبط؟ - لماذا انفصلتما عن بعض بعد قصة حبكما العنيفة؟ ابتسمت وأنا أكابد غيرة طاحنة: - أولاً كنت له زوجة شرعية وليست حبيبة فقط. شهقت مدهوشة: - زوجته؟! شحب لونها فشئت أن أتشفى فسألتها ساخرة: - ماذا أقدم لكِ من سيرته العطرة؟ قالت: إنه انفصل عن زوجه لأنها مفروضة عليه بحكم تقاليد العائلة حتى التقاني فكنت حبه الأول والأخير وإني امرأة استثنائية و ...... أشرت لها عن تصمت: - دعيني أكمل: أجفلت مبهوتة بينما تابعت: - وأنكِ حورية من السماء وباقي النساء صورة طينية ميتة وأنه سيظل معك للأبد عوناً وسنداً وأمرك أن تجلسين في بيتك معززة مكرمة فهو من سيحمل عنكِ كل الأعباء. تسمرت وبانت الدهشة في عينيها: - بالضبط وكأنكِ كنتِ معنا. وقفت وأنا أستعد للذهاب: - تأكدي يا عبير أنها ذات الاسطوانة المشروخة التي تكررت على سمع كل ضحاياه بمن فيهن أنا وأسقط ضعفه عليهن، فهو رجل غير مستقر، متردد، متزعزع الثقة، ولهذا لن يستطيع أن يهب لأية امرأة إنه يزهد النكهة التي يعتاد عليها فيطير ليحط على زهرة أخرى. شعرت بالراحة لأني ألقيت بأكداس همي في البحر بعد أن كشفت باطنه الأجوف، ولكن للأسف.... بعد فوات الأوان..