في القرآن العظيم آيات لو تدبرها الناس لكفتهم، ولفتحت عليهم بابا كبيرا الى الخير، وأغلقت عنهم أبواب الشر...... من تلك الآيات هذه الآية: { ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك له وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم}.. ..هذه الآية تتحدث عن رحمة الله، التي يرسلها تارة، ويمسكها أخرى، ولا أحد يقدر على ذلك غيره سبحانه وتعالى. هذه الآية من تدبرها واستيقنها واستقرت في قلبه، تحول تحولا كاملا في: ... تصوراته... واتجاهاته... وموازينه.. - إنها تقطعه عن كل قوة، وتصله بقوة الله.. - تيئسه من كل رحمة، وتصله برحمة الله.. - توصد أمامه كل باب، وتفتح أمامه باب الله .. - تغلق في وجهه كل طريق، وتشرع له طريقه الى الله. ورحمة الله تتمثل في مظاهر لايحصيها العد، ويعجز الانسان عن مجرد ملاحقتها وتسجيلها، فمن مظاهرها: - خلق الانسان، وتكوينه، وتكريمه، وتسخير الأرض له، وهدايته بالرسل والكتب.. - ومن قبل بفطره على معرفته ومحبته، قال تعالى : { وإن تعدوا نعمة الله لاتحصوها } ، وقال : { وما بكم من نعمة فمن الله } . - ورحمة الله ليست قاصرة على ما وهب وأعطى، بل تمتد إلى حرم ومنع: فما حرم شيئا إلا رحمة بخلقه، وما منع رزقا إلا لرحمته بعباده، حرم الربا، والزنا، والخمر، والقمار، رحمة بهم، حتى لاتفسد معيشتهم حياتهم، ومنع بعض عباده المال والصحة رحمة بهم كيلا يكفروا، ويطغوا، ويعيثوا في الأرض فسادا. - رحمة الله يجدها من يفتحها الله له، في كل مكان، وفي كل شيء، وفي كل حال، يجدها في نفسه، وفيما حوله، ولوفقد كل شيء مما يعد الناس فقده حرمانا.... ورحمة الله يفقدها من يمسكها الله عنه، في كل شيء، وفي كل حال ومكان، ولو وجد كل شيء، مما يعد الناس وجده من الإنعام.. وما من نعمة يمسك الله عنها رحمته حتى تنقلب هي بذاتها نقمة، وما من محنة تحفها رحمة الله حتى تكون هي بذاتها نعمة: ينام الانسان على الأرض فوق التراب مع رحمة الله فإذا هي مهاد، وينام على الحرير وقد أمسكت عنه رحمة الله فإذا هو شوك.. يعالج أعسر الأمور برحمة الله فإذا هي هوادة ويسر، ويعالج أيسر الأمور وقد تخلت عنه رحمة الله فإذا هي مشقة وعسر.. يخوض بها المخاوف والأخطار فإذا هي أمن وسلام، ويعبر بدونها المسالك الآمنة فإذا هي مهلكة وبوار .. ولا ضيق مع رحمة الله، إنما الضيق في إمساكها.. لا ضيق معها ولو كان صاحبها يعيش في فقر، وتحت العذاب والأذى، ولاسعة مع إمساكها ولو تقلب في أعطاف النعيم. هذه الرحمة تفتح.. ثم يضيق الرزق والسكن والعيش وتخشن الحياة، فلا عليك فهو الرخاء والسعادة والأمن والراحة.. وهذا الفيض يمسك.. ثم يفيض الرزق ويقبل كل شيء، فلا جدوى إنما هو الضنك والبلاء والشقاء والعذاب. يبسط الله الرزق مع رحمته، فإذا هو متاع طيب، ورغد في الحياة، وزاد الى الآخرة، بالإنفاق، وتحري الحلال، والرضا بالنصيب.. ويمسك رحمته، فإذا هو مثار قلق وخوف وحسد وبخل وطمع وتطلع الى الحرام وتوغل في الشبهات. يمنح الله الذرية مع رحمته، فإذا هي زينة ومصدر فرح واستمتاع وذخر للآخرة وعون في الدنيا.. ويمسك رحمته، فإذا الذرية بلاء ونكد وعنت وشقاء وسهر بالليل وتعب بالنهار. يهب الله الصحة والقوة مع رحمته، فإذا هي نعمة وحياة طيبة.. ويمسك عنها رحمته، فإذا الصحة والقوة وسيلة الى الحرام وتعدي الحدود والطغيان والظلم. ويعطي الله السلطان والجاه، مع رحمته فإذا هي أداة إصلاح ومصدر أمن، ووسيلة لادخار الصالح من العمل والأثر.. ويمسك عنها رحمته، فإذا هي مصدر قلق وطغيان وبغي واستكبار، يدخر بها رصيدا ضخما من العذاب في الآخرة. - ومن رحمة الله أن تحس برحمة الله: فرحمة الله تضمك وتغمرك وتفيض عليك، ولكن شعورك بوجودها هو الرحمة، ورجاؤك فيها، وتطلعك إليها هو الرحمة، وثقتك بها، وتوقعها في كل أمر هو الرحمة.. والعذاب في احتجابك عنها، أو يأسك منها، أو شكك فيها، وهو عذاب لايصبه الله على مؤمن أبدا: { إنه لاييأس من روح الله إلا القوم الكافرون} .. - رحمة الله لاتعز على طالب في أي مكان ولا في أي حال : وجدها إبراهيم عليه السلام في النار.. ووجدها يوسف عليه السلام في الجب، كما وجدها في السجن .. ووجدها يونس عليه السلام في بطن الحوت في ظلمات ثلاث .. ووجدها موسى عليه السلام في اليم، وهو طفل مجرد من كل قوة،، كما وجدها في قصر عدوه فرعون.. ووجدها أصحاب الكهف في الكهف، حين افتقدوها في القصور والدور، فقال بعضهم لبعض: { فأووا الى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته } .. ووجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصاحبه في الغار، والقوم يتعقبونهما، ويقصون الآثار.. ووجدها كل من آوى إليها يأسا من كل ما سواها، منقطعا عن كل قوة ورحمة، قاصدا باب الله وحده دون الأبواب. - ثم إنه متى فتح الله أبواب رحمته فلا ممسك لها، ومتى أمسكها فلا مرسل لها: ومن ثم فلا مخافة من أحد، ولارجاء في أحد، ولامخافة من شيء، ولارجاء في شيء، ولا خوف من فوت وسيلة، إنما هي مشيئة الله يفعل ما يشاء. وما بين الناس ورحمة الله إلا أن يطلبوها مباشرة منه، من غير وسائط، بل التوجه الى طاعته، وترك معصيته، والثقة برحمته، والاستسلام له . --- - آية واحدة ترسم للحياة صورة جديدة: تغير القلوب وتملأها بالطمأنينة والثقة، وتطرد عنها الأوهام والوساوس، وتبدلها خوفها أمنا، واضطرابها ثباتا، وجزعها رضا، وترزقها حسن الظن بالله. آية واحدة لو استقرت في قلب إنسان لصمد كالطود للأحداث، ولو تضافر على عداوته الجن والإنس، وهم لايفتحون رحمة الله ولايمسكونها، فلم الخوف منهم ولم الرجاء فيهم؟.. { ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم } . ---- يحدثنا القرآن الكريم عن عن علم الله ورحمته أنهما وسعا كل شيء، قال تعالى في ثلاثة مواضع من كتابه: - { وسع ربي كل شيء علما } .. - { ورحمتي وسعت كل شيء }.. وقد جمعا في آية واحدة: - { ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما } .. فعلم الله شامل لايغيب عنه مثقال ذرة، ومن هنا كانت رحمته شاملة، فالرحمة الشاملة لابد لها من علم شامل، فإن الرحمة لاتكون إلا بعلم، فالله تعالى أخبر عن علمه أنه وسع كل شيء، وعن رحمته أنها وسعت كل شيء، حتى يتعلق العباد برحمته، ثم بين لنا أنه استوى على أعظم مخلوقاته، وهو العرش، باسم الرحمن فقال : { الرحمن على العرش استوى} .. والعرش محيط بالمخلوقات قد وسعها، والرحمة محيطة بالخلق واسعة لهم، كما قال تعالى: { ورحمتي وسعت كل شيء} .. وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لما قضى الله الخلق كتب في كتاب، فهو عنده موضوع على العرش: إن رحمتي تغلب غضبي ). فإذا تأملنا: - أن علم الله وسع كل شيء،.. - وأنه استوى على العرش باسم الرحمن.. - وأنه كتب كتابا ووضعه على العرش فيه: أن رحمته تغلب غضبه.. عرفنا عظم رحمة الله ووسعها ......!!!!!!.... فالخيبة كل الخيبة لمن حُرِمها، ولايُحْرَمها إلا خاسر، وأما الفائز بها فهو السعيد وصفته كما قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف : 156] .. فمن أراد رحمة الله أن تناله، فليتق الله في كل أموره: - بفعل الطاعات.. - واجتناب المعاصي.. - وليؤد حق الله في ماله.. - وليؤمن بكل بكل ما جاء عن الله، بلا تردد. والسلام..